الفرق بين الإلهام والوحي

الفرق بين الإلهام والوحي

يُعدّ كل من “الإلهام” و”الوحي” من المفاهيم الغيبية التي ترتبط بالعلاقة بين الإنسان والعالم العلوي، وهي مفاهيم متجذّرة في الفهم الديني والفلسفي الإسلامي، حيث يُعدّ التمييز بينهما أمراً بالغ الأهمية في معرفة حدود النبوة، ومقامات الأولياء، ودرجات الهداية، وما يتعلّق بالعقائد والشرائع. وعلى الرغم من وجود تشابه ظاهري في دلالة كلٍّ من الإلهام والوحي، فإنّ الفروقات بينهما عميقة في المصدر، والمضمون، والوظيفة، والمُخاطَب به، والآثار الناتجة عنهما، ما يفرض دراسة تحليلية معمقة لهذين المفهومين لفهم المقاصد الربانية من كلٍّ منهما.

المفهوم اللغوي والاصطلاحي

الوحي:

لغةً: أصل الكلمة من مادة “وحى” التي تدل على الإشارة السريعة الخفية، ويُقال: وحى إليه بالكلام إذا كلّمه سراً، وقد يدل الوحي على الكتابة أو الإلهام أو الإشارة أو الإلقاء في الروع، وهو في اللغة ذو معانٍ متعددة كلها تجتمع على معنى الخفاء والسرعة.

اصطلاحاً: هو إعلام الله تعالى أنبياءه ورسله بما يريد من هداية الخلق، بطريقة غير مألوفة للبشر، سواء أكان ذلك بواسطة الملك (جبريل عليه السلام)، أو من غير واسطة، كالكلام المباشر من الله للنبي، كما حصل مع موسى عليه السلام.

الإلهام:

لغةً: من “ألهم” أي ألقى في النفس شيئًا وأفهمها إيّاه خفية. ويُقال: ألهمه الله الخير إذا جعله في قلبه.

اصطلاحاً: هو ما يُلقى في نفس العبد من معاني الخير والصلاح من غير سبق تفكير ولا اجتهاد، ويكون ذلك من الله تعالى لعباده الصالحين، أو من الملائكة، وقد يكون –في بعض الحالات– من خواطر النفس أو من الشيطان، لكن يُعرف الإلهام الصحيح بنتيجته ومطابقته للشرع.

الفرق بين الإلهام والوحي من حيث المصدر

• الوحي: مصدره حصراً هو الله سبحانه وتعالى، ويقع للأنبياء فقط، ويكون في قالب خاص محفوظ من الخطأ والتحريف، كما أن الوحي موثق بالنصوص ويُبلّغ إلى الناس.

• الإلهام: قد يكون مصدره الله تعالى، أو الملَك، أو حتى الشيطان، ويقع لغير الأنبياء من الأولياء، أو عامة المؤمنين، أو حتى الكافرين كما ورد في القرآن الكريم في سياق إلهام النفس فجورها وتقواها، وقد أُلهمت أم موسى بأن ترضع ابنها وتلقيه في اليمّ.

الفرق من حيث المُخاطَب

• الوحي يختص بالأنبياء والرسل فقط، وهو علامة نبوتهم، ولا يمكن لغير النبي أن يتلقاه. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾ [الشورى: 51].

• الإلهام يقع لغير الأنبياء، فيمكن أن يُلهم الله عباده الصالحين بأمور في دينهم ودنياهم، وهذا ما يُعرف بـ”الفراسة” عند الأولياء و”الحدْس” عند العلماء و”الخواطر الصادقة” عند العباد.

الفرق في الوسيلة والكيفية

• الوحي قد يكون بأشكال متعددة: كأن يُرسل الله جبريل عليه السلام في صورة بشرية أو في صورته الملائكية، أو يُلقيه الله في قلب النبي يقينًا لا يحتمل الشك، أو يُكلّمه الله مباشرة كما حصل في حادثة الطور مع موسى عليه السلام.

• الإلهام يكون إلقاءً في القلب مباشرة، غالبًا لا يشعر المُلهَم بكيفيته، ولا يُرى فيه مَلَك أو يُسمع فيه كلام مسموع، وإنما هو وميض باطني يحضر في النفس ويشعر العبد أنه توجيه رباني نحو الخير.

الفرق في القطعية والحجّية

• الوحي هو قطعي الثبوت والدلالة، لا يُردّ ولا يُناقش، لأنه وحي من الله إلى نبي وجب تصديقه واتباعه. كل ما جاء به النبي عن ربه وحي يجب العمل به في الدين، وهو معصوم من الخطأ والتحريف.

• الإلهام ليس حجة شرعية في ذاته، ولا يُؤخذ منه تشريع ولا يُحتجّ به على الآخرين، لأنه قد يعتريه الوهم، أو يُخالطه هوى، أو يلتبس بخاطر شيطاني، فلا بد من عرضه على الشريعة، فإن وافقها فهو مقبول، وإلا فهو مردود.

الفرق في الوظيفة والمقصد

• الوحي مقصده إبلاغ الناس وهدايتهم وإقامة الحجة عليهم، لذلك فهو يتضمن شريعة كاملة وأوامر ونواهي وتكاليف، وغالبًا ما يكون مقرونًا بالتبليغ. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة: 67].

• الإلهام مقصده هداية الشخص نفسه إلى الخير، ولا يكون فيه تبليغ للناس، وإنما هو توجيه روحي فردي، وهو داخل في رحمة الله بعباده وتيسيره لهم سبيل الاستقامة.

الفرق من حيث التأثير الشرعي

الإلهام في القرآن والسنة

وردت إشارات متعددة في القرآن الكريم إلى الإلهام، منها:

• إلهام النفس: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 8]، وهو إلهام فطري يجعل النفس تدرك الخير والشر.

• إلهام أم موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7]، وهذا من الإلهام، لا من الوحي النبوي، لأنه وقع لامرأة ليست بنبية.

• إلهام الحواريين: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: 111]، أي أوحيت إليهم بمعنى ألهمتهم الإيمان.

أما في السنة، فقد قال النبي ﷺ: “إن من أمتي مُحدَّثين، فإن يكن في أمتي أحد فعمر” (رواه البخاري)، أي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُلهَم بالصواب، وهي منزلة دون النبوة، لكنها مرتبة عالية من الفراسة والإلهام الرباني.

خلاصة التمييز بين الوحي والإلهام

إنّ التفريق بين الوحي والإلهام ضروري لحماية العقيدة من التباس مقام النبوة بمقامات الصالحين، فمن نسب الإلهام منزلة الوحي فقد تعدى الحدود الشرعية، ومن أنكر الإلهام كلية فقد جفّى مقامات الإيمان العالية. فالوحي هو أساس الدين والتشريع، أما الإلهام فوسيلة هداية شخصية، لا ترقى إلى مستوى التشريع أو النبوة. وإن وجود الإلهام في حياة الصالحين لا يمنحهم سلطة دينية على الناس، كما أن انقطاع الوحي بوفاة النبي محمد ﷺ لا يمنع من وجود الإلهامات الربانية لعباده المؤمنين.

المراجع:

• ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري

• الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة